في إحدى البرامج الاستشاريَّة إتصلت فتاة تشتكي بصوت متهدَج كثرة ضغط إخوتها عليها، فهم يعاملونها كخادمة، ولا يجعلونها تستريح طوال فترة وجودهم في المنزل، وكذلك والدتها ووالدها.
أجابها الضيف بأن تصبر، وأنَّ الوضع عادي، فهم أهلها ولا شيء في ذلك!
هنا ينتهي الرد، وينقطع الإتصال، ولكن معاناة تلك الفتاة لم تبرح مخيلتي، فهي ليست نموذجًا شاذًا في مجتمعاتنا، بل هي حالة تكاد تكون متوفرة في جميع البيوت، ربما تتمثل في الأبناء ذكورًا وإناثًا.
لن أتحدَّث عن رد الإستشاري الذي إستضافه البرنامج، فذلك موضوع آخر، يتعلق بمسئولية القنوات التلفزيونية التي تأتي بأي شخص لسد فراغ البرامج الجماهيرية دون إهتمام بخبرته في هذا المجال، أو بقدرته على حل المشكلات، أو حتى التطبيب على كتف المتألمين!
وللعودة إلى موضوع السائلة الشاكية الباكية أقول إنَّ الطفل العنيد الذي يرفض كل طلبات أهله، يحتل مكانة ملكيِّة في الأسرة، فهو يَطلب ولا يُطلب، يُعطى ولا يعطي.
أما ذلك الابن المسالم، الذي يستحي من قول لا، ويمتلك قلبًا حنونًا وحسًّا مرهفًا، ولا يرغب في جرح مشاعر والديه، فهو ينال أقسى عقوبة على حُسن أدبه، بالعمل الشاق وإمالة كف المسئوليات تجاهه، وكأنَّه يمتلك من الطاقة والقدرات ما لا يملكه غيره، أو كأنه هو المسئول عن برّ والديه، أما المتمرد فلا واجبات عليه وله الكثير من الحقوق!
ويظهر ذلك في تحويل الفتاة المطيعة إلى خادمة، فإذا ما وجد أفراد الاسرة إبنتهم طيبة هينة لينة إنكبوا عليها جميعًا بهاتِ!
هاتِ كأسًا من الماء، إغسلي ثوبي، إكوي ثوبي، إصنعي لي وجبة سريعة، حلي لي واجبي، قومي بهذا العمل بدلًا عني، وهلم جرا!
حتى أنها إذا ما فكرت لتستريح وتجلس بين أسرتها كفرد منهم، فتحت شهيتهم لسيل الطلبات، ولو كان ما يطلبونه بجوار أحدهم، ولا يفصل عنه سوى مسافة أن يمد يده ليلتقطه!
ويظهر بتحويل الابن المطيع إلى سائق، فهو الذي يأتي بإحتياجات الاسرة من السوق، وهو الذي ينوب والده في أعماله، ويلقي بالمهملات في مكانها المخصص، ويغلق البوابة الخارجية قبل النوم، ويذهب بأهله إلى أي مناسبة ولو كانت في عز الظهيرة أو آخر الليل.
لست بصدد إعلان ثورة بين أفراد الأسرة الواحدة، لأنَّ حديثي للأسف ليس موجهًا إلى الذين يعانون من كثرة الضغط عليهم، بل هو موجه إلى الأسر التي لا تدرك وجود معاناة أو مشكلة في كثرة الضغط بالطلبات والأعمال على أبنائهم!
وهو في الوقت ذاته لا يحرّم خدمة الأبناء لآبائهم، ولكنه يقنن العملية بحيث لا تكون جائرة ومائلة لطرف دون آخر.
ولا يفكر الآباء والإخوة في أنّ أولئك المضغوط عليهم لهم آلامهم، وإهتماماتهم، وحقوقهم، وقدرتهم المحدودة على التحمل.
قد يبدو الأمر مفاجئًا للوالدين إذا علموا أن إبنتهم المطيعة تخلد إلى النوم وقد بللت وسادتها بالدموع، وهي تشعر بأنه لا قيمة لها بين أهلها سوى ما للخادمة من قيمة، وأنهم يفتقدونها كما تفتقد أية ربة بيت خادمتها المخلصة، ولكنه ليس مفاجئًا لكل من عانى أو عانت كل هذه الضغوط.
وما هذا المقال إلا جرس إنذار لأسرنا التي تستغل طيبة أبنائها وتلحس العسل حتى آخر قطرة، دون أن تكلف نفسها عناء تحميل طفلها المدلل العنيد ما يجب عليه، بحجة البعد عن وجع الرأس، ويقتلون ضمائرهم بدليل أنّ كلٌ ميسّر لما خلق له!
ودورنا كآباء هو دراسة أوضاعنا بجدية، من هو الابن الذي تثقل كاهله المهمات، ومن هي الابنة التي عوملت كسندريللا التي تنتظر الفرج من الله وليس من ساحرة أو شلة من الفئران.
ثم ننظر إلى أحبتنا المدللين، ولماذا أزلنا الأحمال عنهم وتركناهم يعيشون كما يحلو لهم دون مسئوليات.
وأخيرا، يجب علينا أن نعيد ترتيب الأدوار، وتقسيم الأعمال بالعدل ووفق قدرات كل فرد من ناحية صحته وسنة وجنسه، وكلما كان الأطفال أصغر سنًا، كلما كانت المهمة أكثر سهولة، وكلما كبروا كلما احتجنا أكثر إلى الحكمة والمداراة والحزم في تغيير الأوضاع.
الكاتب: أ. هناء الحمراني.
المصدر: الإسلام اليوم.